فلسطين قبل الإسلام وثبات عروبيتها



فلسطين قبل الإسلام وثبات عروبيتها

د / أحمد عبد الحميد عبد الحق
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين ، وبعد ..
فقد كانت فلسطين من البلاد التي نشأ فيها العمران وسكنها الإنسان منذ وقت مبكر نظرا لموقعها الجغرافي واعتدال مناخها وخصوبة أرضها ( رغم قلة المياه بها ) وتلك الأشياء كانت مما يدفع الإنسان للاستقرار قديما ، ووجود المسجد الأقصى بها الذي بني بعد المسجد الحرام بأربعين عاما فقط ، وهناك من الآثار ما يثبت أن الإنسان سكن أرض فلسطين منذ العصور الموغلة في القدم، وبعض تلك الآثار يعود إلى العصر الحجري القديم (500 ألف – 14 ألف ق.م)، والعصر الحجري الوسيط (14 ألف – 8 آلاف ق.م) حيث يطلق على هذا العصر في فلسطين الحضارة النطوفية نسبة إلى مغائر النطوف شمال القدس، وأصل النطوفيين غير معروف حتى الآن ، وتركزت حضارتهم على الساحل ، وعاشوا في المغائر والكهوف كمغائر جبل الكرمل .
وفي العصر الحجري الحديث (8000 – 4500 ق.م) انتقلت حياة الإنسان في فلسطين إلى الاستقرار، وتحول من جمع الغذاء إلى إنتاجه، وفي أريحا ظهرت أول الدلائل على حياة الاستقرار، وهي تعتبر – حتى الآن – أقدم مدن العالم حيث أنشئت نحو 8000 ق.م
وامتد العصر الحجري النحاسي من (4500 – 3300ق.م)، وقد كشف عن مواقع حضارية أثرية تعود إلى تلك الفترة في منطقة بئر السبع، وبين جبال الخليل والبحر الميت، والخضيرة على السهل الساحلي .
وتميزت بداية الألف الثالث قبل الميلاد بظهور الإمبراطوريات القديمة في الشرق، وقد رافق ذلك التوصل إلى الكتابة والبدء بتدوين التاريخ، ومن هنا تبدأ العصور التاريخية في فلسطين . 
ويطلق على الفترة الممتدة من (3300 – 2000 ق.م) اسم العصر البرونزي القديم، كما تميزت هذه الفترة بظهور المدن التحصينية الدفاعية التي قامت على هضاب مرتفعة، وانتشرت بأعداد كبيرة، وكانت غالبيتها في وسط وشمال فلسطين، ومن أهم المواقع بيسان ومجدو والعفولة ورأس الناقورة وتل الفارعة غرب نابلس.
وفي الألف الثالث قبل الميلاد زاد عدد سكان فلسطين ، ونمت المدن وأصبح لها قوة سياسية واقتصادية ؛ مما يمكن تسميته بعصر "دويلات المدن " .
وأما عن جنسية الشعوب التي سكنتها في تلك الحقب فيرجح المؤرخون أن الكنعانيين العرب, هم أول شعب عرفه التاريخ يسكن فلسطين ، وقد نزحوا إليها من شبه الجزيرة العربية إثر الجفاف الذي حل بها، وذلك في حوالي 2500ق. م ، ومنهم أخذت فلسطين اسمها فصارت تعرف باسم أرض كنعان. وقد اختيرت مدينة نابلس عاصمة بلاد كنعان لموقعها المتوسط من فلسطين.
وهناك من المؤرخين من يرى أن أول هجرات للكنعانيين إليها كانت سنة 3500 ق.م. حيث اتجهت من شبه الجزيرة العربية إلى نحو الشمال الشرقي ، وعلى هذا فإن العرب يوجدون في فلسطين منذ خمسة آلاف سنة على الأقل.
وقيل إن موجتها الأولى كانت تشمل الفينيقيين ( جزء من الكنعانيين ) الذين توغلوا حتى أقصى الغرب ،  ولذلك تسمي التوراة القبائل التي عاشت غربي نهر الأردن, بالكنعانيين, وهذا اعتراف صريح من كتاب اليهود المقدس ، وقد كانت هذه الهجرة منذ أربعة آلاف سنة قبل الميلاد.
والكنعانيون شعب سامي عربي, من العرب البائدة ، وهم فروع وقبائل متعددة, منهم" البيبوسيون" الذين كانت عاصمتهم مدينة القدس وهم بناتها, ومنهم العمالقة.
وقد أنشأ الكنعانيون معظم مدن فلسطين، وكان عددها – حسب حدود فلسطين الحالية – لا يقل عن مائتي مدينة خلال الألف الثاني قبل الميلاد وقبل قدوم العبرانيين اليهود بمئات السنين.
ومن المدن القديمة فضلاً عن أريحا والقدس مدن شكيم  (بلاطة، نابلس) وبيسان وعسقلان وعكا وحيفا والخليل وأسدود وعاقر وبئر السبع وبيت لحم .
وقد بقيت سيادتهم بها ما بين حوالي 2500-1000ق.م.
حضارتهم:  
تدل الآثار القديمة على أن الكنعانيين كانت لهم حضارة متقدمة تعتبر من أقدم الحضارات في التاريخ؛ فقد اكتشفوا النحاس ومزجوه بالقصدير لإنتاج البرونز الذي كان شائعًا منذ حوالي 2500ق.م. كما تفنن الكنعانيون في وسائل ري الأراضي الزراعية. وكانت كروم العنب والتين من أهم مزروعاتهم. وكان من أهم صناعاتهم تطعيم العاج وصنع العربات والسيوف، والتماثيل التي صنعوها من خشب الأبنوس، كما تفوقوا في صناعة الزجاج والنسيج والصوف والقطن، وفي صناعة الأصباغ. كما اشتهر الكنعانيون الفينيقون الذين سكنوا السواحل بصناعة السفن مستفيدين من أخشاب الأشجار التي كانت متوفرة في غابات لبنان.
كما قاموا باختراع الألفباء الهجائية ونقلوها إلى أوروبا ، فكان ذلك بداية تغلب الحروف الألفبائية على الخط المسماري.
المدن الكنعانية :
 كانت بلاد كنعان تتألف من دويلات في شكل مدن صغيرة محصّنة لصد هجوم القبائل الغازية ، وكانت هذه المدن في نزاع مستمر فيما بينها ، وقد سمى اليونانيون مجموعة المدن الساحلية التي كانوا على اتصال بها باسم فينيقيا.
 وقد تمكنت مصر من بسط نفوذها على تلك الدويلات الكنعانية في حوالي القرن التاسع عشر قبل الميلاد ، وعقدت معها اتفاقيات لحمايتها من غارات البدو.
مؤرخون: الفينيقيون والكنعانيون عرب اقحاح:
يتفق المؤرخون على إن الفينيقيين والكنعانيين هم عرب اقحاح أصلا ، ومن هؤلاء  الطبري الذي قال: إن الفينيقيين والكنعانيين هم عرب، ونقل عنه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة لكتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من وادي السلطان الاكبر" ..
 ولذلك لا يشكّنّ أحد بعروبة فلسطين قبل مجيء اليهود إلى البلاد. ولو عدنا إلى المصادر وإلى علاقة الشعب اليهودي بهذه البلاد لوجدنا أن المصادر تذكر قصة مجيء إبراهيم الخليل ( ومن نسله جاء بنو إسرائيل ) إلى فلسطين حوالي سنة 1850 قبل الميلاد ، وكانت واقعة ـ وقتها ـ تحت حكم الكنعانيين.
 كما أن الخليل ـ عليه السلام ـ عند دخوله وجد مدينة القدس قائمة ، وكان قد أقامها اليبوسيون وكانت تدعى يبوس، وهؤلاء اليبوسيون هم عرب أيضا وكنعانيون..
وحتى عندما عاد اليهود من مصر بقيادة النبي موسى ومن بعده يشوع بن نون وفرضوا سيطرتهم على البلاد ظلت كثير من الأماكن بقيادة العرب ..
 ولما دخل الفتح الإسلامي بعد معركة أجنادين فلسطين وجد سكانها عربا ، حيث أقبلوا على الإسلام تدريجيا حتى عمهم .
وثمة شهادات يهودية تؤكد على عربية فلسطين قديما ، منها شهادة المؤرخ اليهودي إبراهام دوتي ، وهو يهودي أمريكي الجنسية ، حيث أكد في كتابه "البدايات والنهايات لدولة اليهود أن شعب إسرائيل حاول دخول فلسطين أكثر من مرة بعد هربهم من مصر ومن بطش الفراعنة، إلا أن الكنعانيين كانوا يصدونهم في كل مرة، والكنعانيون هم عرب".
 وكل هذا يؤكد أن فلسطين قد عمرت بمن ينتمون إلى الجنس العربي قبل أن يوجد اليهود على الأرض بمئات السنين ، ورغم ذلك يهمل مؤرّخو الغرب المتخصصون في تاريخ الشرق الأدنى القديم و حضارته الإشارة إلى ذلك ، وتغافلت دراستهم للتاريخ الفلسطيني تلك الحقائق، ولم يخصّصوا في دراستهم المهتمة بشعوب الشرق الأدنى القديم أي ذكرٍ خاصٍ بتاريخ الفلسطينيين القديم في شكل عمل مستقل ، أو حتى في شكل فصل مستقل من فصول الدراسة .
وهذا الإهمال مقصود لذاته بسبب سيطرة المؤرّخين اليهود والصهاينة على مجال الكتابة التاريخية عن فلسطين ، ولذلك فقد أخرجوا تاريخ الشعب الفلسطيني القديم من دائرة البحث كشعبٍ من شعوب الشرق الأدنى القديم ، ومركّزين تركيزاً شديداً على دراسة تاريخ (الإسرائيليين) ، وذلك لتأصيل الوجود الصهيوني المزعوم في فلسطين ، باستبعاد الفلسطينيين الذين سميت المنطقة باسمهم .
واذا كان الكنعانيون العرب أول قوم عرفهم التاريخ المدوّن في فلسطين، فلا يعني ذلك أنهم كانوا بداية اتصال العرب بفلسطين، ذلك أن الهجرات المتوالية من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام بدأت منذ تاريخ يسبق الهجرة الكنعانية، لأن الظروف الجغرافية التي أدت إلى هجرة الكنعانيين الجماعية إلى فلسطين، قبل نحو 4 آلاف عام قبل الميلاد، بدأت قبل ذلك بزمن طويل ولا بد أن هجرات متفرقة توالت عبر القرون السابقة.
ويرى بعض المؤرخين أن جزيرة العرب أخذت تتقهقر وتفتقد رطوبتها واعتدال جوها وأسباب العيش فيها منذ أكثر من أربعة عشر ألف سنة، وبما أن التقهقر كان بطيئاً فإن تأثيره في حياة السكان لم يكن مفاجئاً، بل كان مطرداً تبعاً لقلة الأمطار وارتفاع حرارة الجو، واتساع الفاقة والجوع والعطش، فارتحلوا إلى بلاد أخصب تربة وأجود جواً وأكثر أمطاراً، وهكذا بدأت هجرتهم التي حدثت مرارا، متقطعة ثم حدثت الهجرة الكبرى حاملة الكنعانيين إلى ديار فلسطين والشام عموما.