حقيقة دفن الملك الصليبي لويس التاسع بتونس



حقيقة دفن الملك الصليبي لويس التاسع بتونس


مقال للكاتب 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:
فقد اضمحلت الحركة الصليبية على العالم الإسلامي في العصور الوسطى بموت الفرنسيس (لويس التاسع) في تونس عام (669هـ/1270م)، وكان ذلك إيذانًا ببداية رحيل القوات الصليبية، وإنهاء وجودها في الشمال الإفريقي، ولكن بعد موته تولَّى قيادة هذا الغزو الصليبي ابنه (فيليب الثالث)، وقد آثار موت الفرنسيس ضجة كبيرة في العالم الإسلامي، وعلى الرغم من اختلاف المؤرخين في وفاته، فإنهم قد اتفقوا على أن أحد أبنائه هو الذي تولى قيادة الحملة من بعده، وانحصرت آراؤهم حول ابنه الذي وُلِد بمصر عقب الحملة الصليبية السابعة، وكان يُدعى (دمياط)، بينما صرَّح كل من: (روبار برنشفيك وميشيل بالار) بأن الذي تولى قيادة الحملة بعد موت الفرنسيس هو ابنه (فيليب الثالث) بالاشتراك مع الكونت شارل دانجو حاكم صقلية.

ومن هنا يمكن القول بأنه تعدَّدت الأسباب والموت واحد، هكذا يرى البعض، ولكن الذي غيَّر مجرى سير القوات الصليبية هو المرض الذي عُرِف (بالوباء)؛ حيث تفشى في كلا الجيشين المتقابلين، فأتى على الكثير من الناس، ولم يَسلم منه لا خاصة الناس ولا عامتهم، بما في ذلك الفرنسيس لويس التاسع نفسه، فقد مات أولًا ابنه (جان كريستان)، ثم (الكاردينال)، ثم (لويس التاسع) نفسه في الخامس والعشرين من أغسطس 1270م/ محرم 669هـ، في الساعات نفسها التي كان فيها الكونت (شارل دانجو) فوق سفينته يستعد للنزول بميناء قرطاجنة[1].


وفاة الملك الصليبي في المصادر العربية:
أورد ابن خلدون (المتوفى 808هـ) الأسباب والملابسات التي أدت إلى وفاة الملك الصليبي لويس التاسع، فقال: "أصبح ملك الفرنجة ميتًا، يقال: حتف أنفه، ويقال: أصابه سهم عربي في بعض المواقف، ويقال: أصابه مرض الوباء، ويقال - وهو بعيد -: إن السلطان المستنصر الحفصي بعث إليه مع ابن جرام الدلاصي سيفًا مسمومًا، وكان فيه مهلكه، ولما هلك اجتمع النصارى على ابنه دمياط، وسُمِّي بذلك لميلاده بها، فبايَعوه واعتزموا على الإقلاع، وكان أمرهم راجعًا إلى العجلة، فراسلت الحملة المستنصر أن يبذل لها ما خسروه في مؤنة حركتهم، وترجع بقومها، فأسعفها السلطان؛ لَما كان العرب اعتزموا على الانصراف إلى مشاتيهم"[2].

وقد اختلفت المصادر الإسلامية والمسيحية في تحديد نوع هذا الوباء، ومدى خطورته، فمنهم من ذكر أنه وباء، ومنهم يقول: إنه طاعون مثل ميشيل بالار، ومنهم مَن يسميه حُمى مثل سيد الحريري، أما برنشفيك، فيقول: إنه وباء الإسهال، وهناك فريق ذهب إلى أنه داء الدوسنتاريا، وهناك فريق آخر أشار إلى وجود مرض بتونس دون تحديد نوعه.

وبموت لويس التاسع بدَت نهاية الحملة الصليبية، وفشلها أصبح واضحًا، ويرى العديد من المؤرخين المحدثين - ممن اهتموا بتاريخ الحركة الصليبية على وجه العموم، ودور فرنسا فيها بوجه خاص - أنه بوفاة لويس التاسع تلاشى الأمل الأخير الذي كانت تتعلق به مملكة اللاتين في الشرق، فكان يُنظَر إلى ملوك فرنسا على أنهم المدافعون الحقيقيون عن مصالح بيت المقدس[3].

وفي هذه الفترة الحرجة التي كاد الوباء يقضي فيها على الجيش الصليبي، كان لا بد من فعل أي شيء من قِبل المسلمين لاستعادة قرطاجنة؛ حيث كان هَمُّ الصليبيين الأول إيقافَ المرضِ، والحدَّ مِن تشتُّت أمرهم، ويصف المؤرخ بيبرس المنصوري (المتوفى عام 725هـ) الحملة الصليبية بعد موت لويس، فيقول: "أهلك الله الفرنسيس، فتفرق الفرنج لموته"[4].
وقد تولى قيادة الحملة بعد وفاة لويس التاسع ابنه (فليب الثالث)، وذلك لحين وصول عمه (شارل دانجو) الذي كان فوق سفينته يستعد للنزول بميناء قرطاجنة[5].

واختلفت المصادر التاريخية الإسلامية حول شخصية (فيليب الثالث)، فرأينا ابن خلدون يشير إلى أنه بعد وفاة الملك الصليبي لويس التاسع، تولى قيادة الحملة ابنه الذي وُلِد بدمياط، ولكن الذي وُلِد بدمياط هو تريسان (يوحنا الحزين)، الذي توفِّي في أثناء الحملة على تونس، وليس فيليب الثالث[6].

وتجدر الإشارة إلى أنه ترأس (فيليب الثالث) قيادة الجيش الصليبي، ثم توارد قدوم مراكب صليبية في البحر، ونزل الرجال منها إلى البر، وكانوا عساكر (كارلوس) صاحب سيسيليا[7]، وفي أثناء نزولهم إلى البر لم يجدوا أحدًا من الصليبيين قد حضر لمقابلتهم، فساروا إلى أن وصلوا إلى معسكر الصليبيين، وسار (كارلوس) إلى أن وصل إلى خيمة لويس التاسع، فوجده ميتًا، فبكى عليه[8].

ودُفِن الملك الصليبي لويس التاسع بمدينة قرطاجنة بتونس يوم 10 محرم 669هـ/10 أغسطس 1270م، وقد اختلف المؤرخون حديثًا حول نقل جثمان الفرنسيس لويس التاسع بعد موته إلى فرنسا، ودفْنه هناك؛ فيقول ميشيل بالار: "إن عودة الملك الفرنسي (فيليب الثالث) إلى فرنسا كانت أشبه ما تكون بجنازة، فالأسطول يحمل رفات القديس لويس، ورفات عدد آخر من أفراد الأسرة المالكة الذين ماتوا خلال الحملة"[9].


والمثير للدهشة واللافت للانتباه أن بعض المؤرخين المحدثين من العرب يصرحون بأن التهافت الفرنسي تجاه الشمال الإفريقي، واستعماره فترة طويلة - ما هو إلا تلبية من الفرنسيين لنداء شهيدهم الدفين بتونس، في حين يُصرح مؤرخو الغرب أنفسهم بأن جثمانه نُقِل إلى بلاده كما أشرنا في ضوء روايات بالار وبرنشفيك، وكانت بمنزلة جنازة عسكرية.

وبالنسبة إلى خط سير الحملة بعد وفاة الفرنسيس، نجد أنهم عقدوا مجلس مشورتهم للنظر في أمرهم، فقرروا استمرار الحصار والمحاربة[10]، وكان من أول أعمال شارل دانجو أن قام بعملية رفع بها معنويات الجيش الصليبي، ففي الرابع من شهر سبتمبر - (أي بعد تسعة أيام من وصوله) - قام بحملة على المحتشدات الحفصية، وخاض بها معركتين؛ إحداهما أرضية، والأخرى مائية في بحيرة تونس، لكن هذه المحاولة لم تكن إلا لرفع معنويات الجيوش الصليبية، ولا سيما الجموع الجديدة الواردة، كما قام الحفصيون بمعركة في المقابل في منتصف المحرم (669هـ/ 1270م) بقيادة يحيى بن صالح الهنتاني، وهي أبرز معركة سُجِّلت في تاريخ الغزو الصليبي لتونس، وقد تكبَّد فيها الفريقان خسائر فادحة[11].

وقد تفرَّد المؤرخ ابن خلدون (المتوفى 808هـ) بإحصاء خسائر الصليبيين بخمسمائة قتيل، وساد الهلع والفزع سكان العاصمة، وظنوا الظنون، واتهم السلطان بالتحول عن تونس إلى القيروان[12]، ولكنَّ أيًّا من الجانبين لم يستطع أن يرجح كِفَّة المعركة إلى جانبه، فبدأ التفاوض بين الفريقين، وكان كل منهما يجنح لقبول التفاوض والوصول إلى اتفاق تنتهي به الحرب[13].

المناخ ودحر الخطر الصليبي بتونس:
شكَّل المناخ عاملًا مهمًّا في دحر الخطر الصليبي تجاه الشمال الإفريقي؛ حيث إن قدوم الشتاء جعل الأعراب يعتزمون العودة إلى مشاتيهم على حد تعبير المؤرخ ابن خلدون، بالإضافة إلى تخاذل الخليفة الحفصي ومواقفه السلبية التي اتسمت بعدم المسؤولية، كل ذلك جعله يجنح للسلم، ويشرع في قبول الشروط التي اشترطها الكونت شارل دانجو عليه، وعلى الجانب الآخر فقد كان الملك الفرنسي الجديد (فيليب الثالث) لا يريد البقاء والاستمرار[14]، وقد تبيَّن لنا ذلك عندما عاد (فيليب الثالث) إلى بلاده ومعه رفات والده، ورفات باقي أفراد الأسرة المالكة الذين ماتوا في أثناء الحملة عقب الصلح مباشرة.

ويضاف إلى ذلك أهمية تغيُّر المناخ، وما يُمثله من خطورة بالغة على بقايا الجنود الصليبيين الذين نجوا من الموت؛ لذا سارع (شارل دانجو) في إبرام عقد الصلح؛ حيث إنهم بدؤوا يُفكرون في العودة قبل قدوم فصل الشتاء، وبذلك يُمكن القول: إن هذا الوضع شكَّل حائلًا أمام الكونت (شارل دانجو)؛ حيث إنه أصبح غير قادر على الصمود والمجابهة، ولذلك عندما شعروا باستعداد المستنصر لقبول الشروط، استجابوا للتفاوض معه، وتم عقد المعاهدة، لتجنُّب أي خطر من الممكن أن يُعرقل وجودهم بتونس.

ويضيف إلى ذلك المؤرخ الغربي برنشفيك: "إن الوباء قد تفشى في صفوف الجنود المسلمين أيضًا، ومن ناحية أخرى فقد اقترب فصل الشتاء، وأصبح رجال القبائل الرُّحَّل يُهددون بالرحيل في اتجاه مراعي الجنوب، حسب عادتهم المألوفة، فخشِي السلطان أن يجد نفسه مضطرًّا إلى الجلاء عن عاصمته للالتحاق بقسنطينة أو القيروان، كل ذلك دفع الطرفين لعقد الصلح"[15].

ومن خلال ما سبق يتضح لنا أن تباطؤَ الخليفة المستنصر بالله الحفصي في الدفاع عن تونس، جعله يتعرض للنقد من المؤرخين؛ وذلك لأنه لو استعد لملاقاة الحملة قبل نزولها مدينة قرطاجنة، لانتصر عليها، خاصة أنه كان يعلم أن الأمراض قد تفشَّت في جنوده، وأضف إلى ذلك أن الفرنسيس كان كهلًا كبيرًا يتخبَّط في قرارته؛ لذا فمن السهل هزيمة الحملة، ولكن التساهل كلَّفه الكثير من الأموال والأرواح، كما أن موت لويس التاسع عجَّل باضمحلال الروح الصليبية التي كانت تهدف إلى استعادة الأماكن المقدسة، وقضى على آمال الغرب نهائيًّا.

وخلاصة القول أنه تَم نقل رفات القديس لويس التاسع إلى فرنسا، وليس كما يدَّعي البعض بأنها موجودة في مدينة قرطاجنة، وقد أثبت ذلك مؤرخو الغرب أنفسهم؛ أمثال: بالار وبرنشفيك، وبموت الفرنسيس اضمحلت الحركة الصليبية عسكريًّا على العالم الإسلامي في العصور الوسطى.


[1] روبار برنشفيك: ((تاريخ إفريقية في العهد الحفصي من القرن 13م إلى نهاية القرن 15م)) 1/92، وانظر أيضا: محمد العروسي المطوي:: ((السلطنة الحفصية))، ص208.
[2] ابن خلدون: ((العبر وديوان المبتدأ))، 6/379.
[3] د/ سامية عامر: ((الصليبيون في شمال إفريقيا))، ص167.
[4] بيبرس المنصوري: ((التحفة المملوكية في الدولة التركية: تاريخ دولة المماليك البحرية في الفترة من (648-711هـ))) ص69، الطبعة الأولى، 1987م.
[5] برنشفيك: ((تاريخ إفريقية في العهد الحفصي))، ص92، المطوي: ((السلطنة الحفصية)) ص208.
[6] سيد علي الحريري: ((الأخبار السنية في الحروب الصليبية))، ص243.
[7] كارلوس هو (شارل دانجو) أخو لويس التاسع، صاحب صقلية.
[8] سيد الحريري: ((الأخبار السنية))، ص243.
[9] ميشيل بالار: ((الحملات الصليبية والشرق اللاتيني))، ص243.
[10] سيد الحريري: ((الأخبار السنية))، ص244.
[11] محمد العروسي المطوي: ((السلطنة الحفصية))، ص209.
[12] ابن خلدون: ((العبر))، 6/377.
[13] المطوي: ((السلطنة الحفصية))، ص209.
[14] ميشيل بالار: ((الحملات الصليبية والشرق اللاتيني))، ص243.
[15] برنشفيك: ((تاريخ إفريقية في العهد الحفصي))، 1/92.