مكانة السنة المحمدية من القرآن الكريم


مكانة السنة المحمدية من القرآن الكريم

أحمد جمال العمري




حين بعث الله محمدًا بالحقِّ؛ ليكون للأمِّيين بشيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وحين حمَّله الأمانةَ، وألقى على كاهله توصيلَ الرِّسالة - كان لا بدَّ وأن يمدَّه بالمؤيِّدات التي تُعينه على أداء رسالتِه، وتحقيق غايتها الإلهيَّة التي بعثه الله من أجلها.

وكان من هذه المؤيِّدات الدَّعمُ الأدبي، والتأييد الربَّاني، الذي تجلَّى في أوامره الإلهيَّة جلَّت قدرتُه لعباده المؤمنين:
• ﴿ ‏مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80].
• ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ﴾ [المائدة: 92].
• ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ﴾ [الفتح: 10].
• ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7].

فما يقوله الرَّسولُ لصحابته وللمسلمين لا بدَّ أن يُطاع؛ لأنَّ قوله هو الحقُّ والصِّدق، ولأنَّه مؤيَّد من عند الله: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ﴾ [النجم: 3 - 6].

فليس بغريب إذًا أن يَكون القرآن الكريم أولَ مَن أشار إلى القيمة الحقيقيَّة للسنَّة المحمديَّة، وليس بغريب إذًا أن يكون القرآن الكريم - كتابُ الله العظيم - أولَ ممجِّد لها، مؤيِّدٍ لما جاء على لسان الرسول الكريم.

ولم يقِف الأمر عند هذا الحد؛ بل لقد ورَد في القرآن الكريم ما يبيِّن أنَّ اللهَ - الملِك - أوكلَ لرسوله الكريم بيانَ أحكام القرآن للنَّاس كافَّة: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44].

﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].

من هنا كانت العلاقة وطيدةً متكاملةً بين كلامِ الله، وما يفسِّره ويوضحه من كلام رسولِ الله، ومن هنا كان القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة الشريفة هما المصدرين الرئيسيَّين للدَّعوة الإسلامية، وللتعاليم الإسلاميَّة، للهداية الربانية، مصدرين تشريعيَّين متلازمين.

لا يمكن لمسلم أن يَفهم الشريعةَ إلَّا إذا رجَع إليهما معًا، ولا غِنى لعالمٍ أو مفسِّر عن أحدهما، ولا يَجرؤ أن يدَّعيَ هذا أحدٌ إلَّا أن يكون جاهلًا أو مُغرِضًا أو أحمق؛ ذلك أنَّ السنَّة الشريفة هي التي تفسِّر مُبهَم القرآن، وتفصِّل مجملَه، وتقيِّد مطلَقه، وتخصِّص عامَّه، وتشرح أحكامَه وأهدافَه، كما أنَّ هناك أحكامًا عدَّة ثبتَت بالسنَّة لم ينصَّ عليها القرآنُ الكريم وإن كانت تتماشى مع قواعده، وتُحقِّق أهدافَه وغاياته؛ كتحريم أكلِ الحُمُر الأهلية، وكلِّ ذي نابٍ من السِّباع، وتحريم نِكاح المرأة على عمَّتِها أو خالتِها؛ فكانت السنَّة التطبيقَ العمليَّ لِما جاء به القرآنُ الكريم.

لكلِّ ذلك؛ تقبَّل المسلمون السنَّةَ الشريفة، كما تقبَّلوا القرآنَ الكريم؛ تقبَّلوهما معًا، وحَفِظوهما معًا؛ تنفيذًا لأوامر الله، تقبَّلوا السنَّةَ وحَفظوها، ولكن لم يكتبوها؛ تنفيذًا لأمر رسولِ الله، وحتى لا يَختلط كلامُ الله مع كلام رسولِ الله، وهذه هي حِكمتُه؛ (أن يجنِّبَهم - وهم حديثو العهد بالدِّين - أن يختلِط الأمرُ عليهم)، ومع ذلك فقد كانوا من الحِرص والوَعْي ما جعلَهم يَحفظون كلَّ كلام على حِدَة، ويميِّزون بين كلامِ الله وكلام رسولِ الله، دون أن يتسرَّب الشكُّ أو يختلطَ الأمرُ؛ ذلك لأنَّ العرب كانوا أهلَ حِفظ وحَفيظة، ما سمِعوه حفِظوه، وكلُّ علومهم يومئذٍ تَعتمد أكثر ما تَعتمد على الحِفظ والرِّواية، قبل أن يَأمر الرسولُ كتَّاب الوحيِ بتسجيل القرآنِ وكتابته.

لذلك دُوِّن القرآنُ، ولم تدوَّن أغلبُ السنَّة، بل حُفِظَت في الصُّدور والقلوب؛ بوَصْفها الجزءَ المتمِّمَ المفسِّرَ لكلامِ الله، والمصدرَ الثَّانيَ للتشريع الإسلامي، وتناقَلَها الأبناءُ عن الآباء؛ التَّابعون عن الصَّحابة، لم يَحِد عنها أحدٌ، ولم يفكِّر مسلمٌ في تَرْك بعضها؛ لأنَّها لم تُذكر في الكِتاب، بل الكلُّ استجاب لتنفيذ أمرِ الله في اتِّباع سنَّة محمد، ونفَّذوا ذلك مخلِصين طائعين، بل ووقَفوا من السنَّة المحمديَّةِ موقفًا عظيمًا، وردُّوا على كلِّ من فهم ذلك الفهم.

روى أبو نَضْرة، عن عِمران بن حُصين، أنَّ رجلًا أتاه فسألَه عن شيء فحدَّثه، فقال الرجل: حدِّثوا عن كتابِ الله عزَّ وجلَّ، ولا تُحدِّثوا عن غيره! فقال: "إنَّك امرؤٌ أحمَق! أتَجِد في كتاب الله صَلاة الظُّهر أربعًا لا يُجهَر فيها؟!"... وعَدَّ الصلوات، وعدَّ الزكاةَ ونحوَها، ثمَّ قال: "أتجِد هذا مفسَّرًا في كتاب الله؟ كتابُ الله أحكَمَ ذلك، والسنَّةُ تفسِّر ذلك"؛ [جامع بيان العلم وفضله؛ لابن عبدالبر (2 / 191)].

ونهَج التابعون وأتباعُهم، والمسلمون مِن بعدِهم سبيلَ الصَّحابة في المحافظة على السنَّة والعمَل بها وإجلالِها، قال رجلٌ للتَّابعي الجليل مُطرِّف بن عبدالله بن الشِّخِّير: لا تُحدِّثونا إلَّا بالقرآن، فقال مطرِّف: "والله ما نُريد بالقرآن بَدلًا، ولكن نريد مَن هو أعلمُ بالقرآن منَّا"؛ [جامع بيان العلم وفضله (2 / 192)].

وأخبار اقتِداء السَّلف الصَّالح - من الصَّحابة والتابعين - بالرسول، والمحافظة على سنَّته تَفوق الحصرَ، منها:
1- أتَت فاطمةُ بنت رسول الله أبا بكر، تَطلب سهمَ رسول الله عليه السلام، فقال: إنِّي سمعتُ رسولَ الله يقول: ((إنَّ الله عزَّ وجل إذا أطعَم نبيًّا طُعمةً، ثمَّ قبضه جعله للذي يَقوم بعدَه))، فرأيتُ أن أردَّه على المسلمين، فقالت: فأنتَ وما سمعتَ من رسول الله أعلم؛ نفس المرجع السابق.

2- في وَقْعة اليرموك كتَب القادةُ إلى عمر بن الخطاب: إنَّه جاش إلينا الموت؛ يستمدُّونه، فكان أن أجابهم عمرُ: "إنِّي أدلُّكم على مَن هو أعزُّ نَصرًا، وأحضر جُندًا؛ الله عزَّ وجل، فاستنصِروه، فإنَّ محمدًا قد نُصر يوم بدر في أقلَّ مِن عُدَّتكم، فإذا أتاكم كتابي هذا فقاتِلوهم ولا تُراجعوني"؛ مسند الإمام أحمد (1 / 494)، بإسنادٍ صحيح.

3- قيل لعبدالله بن عمر: لا تجِد صلاةَ السَّفر في القرآن؟ فقال ابن عمر: "إنَّ الله عزَّ وجل بعَث إلينا محمدًا ولا نَعْلم شيئًا، فإنَّما نَفعل كما رأَينا محمدًا يَفعل"، وفي رواية أخرى: "وكنا ضُلَّالًا فهدانا الله به، فبِه نقتدي"؛ مسند الإمام أحمد (8 / 68، 77).

أولئك بعض صَحابته، لم يَرضَوا تركَ سنَّةٍ كان عليها نبيُّ الرَّحمة، ولم يَقبلوا أن يُشكِّكهم مشكِّكٌ، أو يضلِّلَهم مضلِّل، لم يَقبلوا مع السنَّة رأيَ أحدٍ مهما كان شأنُه، ومهما علَت مكانته، وهم بذلك حفِظوا الحديثَ النبويَّ الشريف، ووجَّهوا الأمةَ الإسلاميَّةَ إلى السبيل القويم، وحملوا الحكَّامَ على تَطبيق أحكام الشَّريعة، وأبَوا أن يُماروا في دين الله، لا يخافون في الحقِّ لومةَ لائم، وكان لهم الفضلُ الكبير، والشَّرفُ العظيم في حَمْل أحكام الشريعة.

هكذا كان للسنَّة قيمتُها ومكانتها في القرآن، وفي قلوبِ الصَّحابة والتابعين، والعاملين بهَدْي الرسول أجمعين، فإذا تقوَّل اليومَ متقوِّل، وحاول أن يَنتقص منها، أو يبتدِع رأيًا، أو يهاجِمَ راويًا، فإنَّنا نَشجب كلَّ ذلك، ونَسِمُه بالجحود والنُّكران.

مجلة التوحيد: عدد شهر صفر 1395 هـ