إن أول ما يلفت االنتباه فى مصر هو الشمس . فهى تبدو قوية , عفية , متوهجة بشكل أقوى بكثير من الشمس التى نراها هنا فى أوروبا و التى تبدو فى الغالب ضعيفة و محاطة بالسحب . تهيمن شمس مصر على الغالف الجوى و تخترقه بأشعتها المتألقة . للشمس حضور ملكى طاغى فى كل أنحاء مصر . يبدو نور الشمس المصرية فى منتهى النقاء و التألق لدرجة أن قدماء المصريين رأوا فيه رمزا ألحد التجليات االلهية , أال و هو “شو” و الذى يوصف بأنه “يمأل السماء بالجمال” .و المنافس الوحيد لجمال ضياء “شو” األخاذ هو الغالف الجوى الذى يعلو فوق السحب و الذى نراه من فوق قمم الجبال و الذى نلمحه عند سفرنا بالطائرات . أطلق االغريق على هذا الغالف الجوى األعلى اسم “األثير” , و هو عبارة عن هواء السماء الذى يعتبر أنقى و أشف من هواء األرض , و لذلك اعتقد االغريق أن اآللهة تحيا و تتحرك فيه . يستطيع المرء أن يتصل باألثير فوق قمة جبل األوليمب عندما يصل الى مستوى السحب . أما فى مصر , فالبلد كله يبدو و كأنه يحيا فى تلك األجواء االلهية . فى مصر يشعر المرء أنه أقرب الى السماء , الى الينبوع االلهى المقدس الذى ينبثق منه وهج الشمس فيغمر العالم بنوره .و لذلك أطلق قدماء المصريين على أرضهم اسم “تا – نترو” , أى “األرض االلهية/المقدسه” . ان تأثير الشمس فى مصر يمتد حتى الى الليل . فالهواء المفعم بطاقة الشمس يكتسب نقاءا يجعل النجوم تبدو أقرب الى األرض . و اذا راقبنا سماء الليل فى مصر خارج المدن , سنجدها مرصعة بالنجوم . فجسد السماء ينحنى فوق األرض على هيئة قبة مرصعة بالنجوم . و هذا الجسد المقبب هو جسد نوت , ابنة تفنوت . فى الليل يصبح حضور “نوت” ) ابنة “شو” و “تفنوت” ( ذات الجسد المرصع بالنجوم فى نفس قوة حضور أبيها “شو” فى النهار .
و “نوت” هى التى تلد الشمس من جديد كل صباح . تقول األسطورة أن هناك عالقة متبادلة بين “شو” و “نوت” من ناحية , و بين “رع” و “نوت” من ناحية أخرى . حيث يعتبر التوهج )و هو الصفة المشتركة بين الشمس و النجوم( هو العامل المشترك الذى يربط بين هؤالء جميعا . و لكن تظل هيمنة الشمس و سطوتها هى األقوى . فالشمس هى ينبوع الحياة , و رمز الروح الخالقة التى تتخلل كل شئ فى هذا العالم . و من أقدم العصور , ظهرت األناشيد التى تبتهل ل “رع” )رب النور( , و منها على سبيل المثال هذا االبتهال الذى يخاطب رع قائال :- *** أبتهل اليك يا من تطل على العالم باشراقتك … أنت الشمس المفعمة بالحياة , و أنت رب األبدية … يا من يتألق نورا و جماال فى السماء … و يا من تنبض القلوب بحبه … ان أشعتك تضئ الوجوه جميعا … و ألوانك المتألقة تحيى القلوب , حين تمأل األرضين بمحبتك … أيها االله العظيم الذى خلق نفسه بنفسه … و الذى خلق األرض جميعا , و كل ما عليها من بشر و قطعان ماشية و أسراب طيور , و كل األشجار التى تخرج من الطين … يحيا هؤالء جميعا حين تطل عليهم باشراقتك … أنت أب و أم كل ما صنعته يداك … حين تشرق , تتعلق بك عيونهم … و يدخل نورك كل قلب , عندما تضئ أشعتك أنحاء األرض , و عندما ترتفع فى السماء ربا لهم *** ان مثل هذه المشاعر ال تنتاب ساكنى المناطق األوروبية الشمالية التى تغطى سماءها السحب و الضباب . فنحن )سكان أوروبا( ليس لدينا خبرة عميقة بالعالم الذى يتواجد فيما وراء السحب )أى السماء( , و الهواء الذى نستنشقه أكثر كثافة من الهواء الذى يستنشقه سكان مصر .
ربما كان من المستحيل على حضارتنا المادية الحديثه أن تنشأ فى مناخ مصر , ذلك أن الحضارات – مثلها فى ذلك مثل النبات – تنتمى الى األرض و تنشأ منها . تنمو الحضارات من األرض و تزدهر وسط المناخ الذى يالئمها و يلعب النور و الهواء دورا فى ذلك النمو . ان قوة النور على أرض مصر كان لها تأثير فعال على الحياة الروحانية , فقد عملت على شحذ الحس الروحى لقدماء المصريين الذين عبروا دائما عن امتنانهم لينبوع النور و الحياة الذى يمأل األرضين بالحب .
من كتاب “معبد الكون” للكاتب الانجليزى “جيرمى نيدلر” ترجمة : صفاء محمد اعداد : باسم حلمى
................................................................................................
المصدر تاج مصر
محول الأكوادإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء الإبتسامات