ثم راح من ينتحل هذه الطريقة يدلل على صحتها بطريقتين:
ـ الطعن في الدراسة المذهبية من عدة وجوه كنشأتها، وجدواها، وآثارها.
ـ بيان ميزات الدرسة وفقم ما يسمى بفقه الدليل.
وقبل أن نذكر الشبهات التي ارتكز لها القوم ونجليها بحول الله وقوته، نذكر أولا معنى المذهبية:
المذهب لغة: مكان الذهاب، وفي سنن أبي داود عن المغيرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب (أي لقضاء حاجته) أبعد.
وتطلق على الطريقة فيقال: ذهب فلان مذهبا حسنا أي طريقة حسنة.
واصطلاحا: ما ذهب إليه إمام وأصحابه من الأحكام التي اشتملت عليها المسائل.
ودراسة مذهب هذا الإمام هي دراسة أقواله في الفروع وأصوله وقواعده التي بنى عليها هذه الأقوال.
فالدراسة المذهبية تعني دراسة طريقة استنباط إمام مجتهد للأحكام في المسائل، وليس مجرد معرفة أقواله في هذه المسائل.
وهذا ما يُحرم منه طالب العلم الذي يتفقه على غير مذهب إذ تكون الدراسة عرضا لأقوال العلماء في الفروع دون معرفة بأصول هذه الفروع، ثم يكون الاختيار العشوائي الذي يعتقدونه ترجيحا وهو ليس كذلك.
شبهات اللامذهبيين حول المذهبية:
ـ أولا: يدعي اللامذهبيون أن المذاهب الفقهية أمر حادث لم يكن في القرون الأولى المفضلة، وعلى ذلك فينبغي الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم من استنباط الأحكام من الأدلة مباشرة.
وهذا كلام باطل، يعلم بطلانه كل من طالع تاريخ التشريع بفهم ويقظة.
فالمذاهب الفقهية وُضع حجر أساسها وتبلورت في عهد الصحابة رضي الله عنهم، واكتمل بنائها قبل انقضاء المائة الأولى، وآخر الأئمة المجتهدين من أصحاب المذاهب وهو ابن جرير الطبري وضع مذهبه (المذهب الجريري) قبل انقضاء المائة الثالثة، وكان قبلها شافعيا ملتزما بمذهب الشافعي في الإفتاء والتصنيف، وقال عن نفسه (أظهرت فقه الشافعي، وأفتيت به ببغداد عشر سنين، وتلقنه مني ابن بشار الأحول أستاذ أبي العباس ابن سريج).
وأبوحنيفة رضي الله عنه كان تابعيا ورأى أنس رضي الله عنه ، وعنه تلقى أصحابه الذين التزموا مذهبه وأفتوا عليه ، وصنفوا في بيان أقواله ونصرتها، وقد صنف الإمام محمد بن الحسن كتابه (المبسوط) ككتاب مذهبي يسرد فيه الفروع على مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف مع بيان رأيه، وكتاب الجامع الصغير يجمع فيه ما حفظ عن أبي يوسف مما رواه له عن أبي حنيفة، وكان الشافعي كثيرا ما يقول في كتبه (مذهبنا، مذهب فلان، مذهب كثير كم أهل العلم) وصنف رحمه الله في بيان مذهبه أصولا وفروعا، ولا يجادل أحد في أن المزني والبويطي والربيع المرادي والربيع الجيزي وحرملة والحميدي والزعفراني كل هؤلاء كانوا متمذهبين شافعيين وقد ماتوا جميعا قبل انقضاء المائة الثالثة.
وأن أصبغ وأشهب وابن القاسم وابن المواز وسحنون وابن وهب كانوا أعمدة المذهب المالكي وهؤلاء جميعا ماتوا قبل انقضاء المائة الثالثة.
فالمذاهب الفقهية الموجودة الآن وغيرها وُضعت واستقرت وانتشرت وصنف فيها وأفتي بها وأطبق الناس عليها قبل انقضاء الثلاثة قرون الأولى.
ثم إن الناظر في زمن الصحابة فمن بعدهم ليجزم أن مجتهدي الصحابة رضي الله عنهم كانوا أصحاب طرائق في الاستنباط الاجتهاد، ولذلك عرف بعضهم بالاجتهاد بالرأي كعمر وابن مسعود رضي الله عنهما، وعرف بعضهم بالاجتهاد بالأثر كابن عمر ضي الله عنهما، وكان لكل واحد أصحابه الذين يتفقهون عليه ويرددون أقواله.
يقول ابن القيم رحمه الله: (والدين والفقه والعلم انتشر في الأمة عن أصحاب بن مسعود وأصحاب زيد بن ثابت وأصحاب عبدالله بن عمر وأصحاب عبدالله بن عباس، فعلم الناس عامته عن أصحاب هؤلاء الأربعة، فأما أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبدالله بن عمر، وأما أهل مكة فعلمهم عن أصحاب عبدالله بن عباس، وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبدالله بن مسعود، قال ابن جرير الطبري: وقد قيل إن ابن عمر وجماعة ممن عاش بعده في المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانوا يفتون بمذاهب زيد بن ثابت وما كانوا أخذوا عنه مما لم يكونوا حفظوا فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا).
وقال ابن القيم أيضا: (أما عائشة فكانت مقدمة في العلم والفرائض والأحكام والحلال والحرام، وكان من الآخذين عنها الذين لا يكادون يتجاوزن قولها المتفقهين بها القاسم بن محمد بن أبي بكر ابن أخيها، وعروة بن الزبير ابن أختها أسماء).
فتأمل كلام ابن القيم هذا وكيف أن أهل كل بلدة وناحية كان يتفقهون على فقيه يتناقلون فتاواه وأقواله ويتعلمون منه طريقته في الاستنباط والتعامل مع الأدلة، ثم تأمل هذا الإسناد:
أبوحنيفة رحمه الله تفقه على حماد ابن أبي سليمان ، وحماد تفقه على إبراهيم بن يزيد النخعي ، وإبراهيم تفقه على الأسود بن يزيد ، والأسود من أجل أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه.
فبذلك تعلم أن فقه أبي حنيفة إمام أهل الرأي يضرب بجذوره إلى العهد الأول إلى ابن مسعود رضي الله عنه ، أشهر من عرف عنه الاجتهاد بالرأي من الصحابة.
ومن بديع استدلالات اللامذهبيين قولهم:
نحن نرجع إلى المعين الذي نهل منه الصحابة مباشرة، وهو فقه الدليل الذي أخرج لنا ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، أما فقه المذاهب فأخرج لنا النووي وابن قدامة فأين هذا من ذاك؟
وجواب ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتعرفوا الشريعة من كتب الشوكاني والصنعاني، ولم يتلقوا الأدلة بشرح الأخ فلان أو علان، الصحابة تلقوا من فم النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، شهدوا التنزيل، وعاينوا أسبابه، وهم عرب أقحاح لا يباريهم أحد في فهم العربية ومعرفة دلالات ألفاظها، فمن توفر له ما توفر للصحابة فليسلك مسلكهم، أما من كان أعجميا لا يخلو منطقه من اللحن، ولا يكاد يقرأ عشرة أحاديث دون أن يلحن فيها، ومن علم أصول الفقه بالنسبة له -وهو عدة المجتهد وعتاده- علم مغلق ثقيل لم يقرأ فيه سوى البدايات، فما له وذلك؟!
وأما قولكم طريقة المذاهب أخرجت لنا مثل النووي وابن قدامة، فماذا أخرجت لكم طريقتكم غير فقهاء الأقوال الشاذة، والمتمجهدين، والمتعالمين؟
وهل يجادل أحد في أن الحركة السلفية المعاصرة في مصر شح فيها الفقهاء بحق؟
فياليتكم أخرجتم لنا عشر معشار النووي وابن قدامة رحمهما الله!
- الفقه بناء متكامل من الفروع والقواعد الأصولية والفقهية، ليس مجرد فروع فقهية فقط، بل المذهب في حقيقته أصول وقواعد استنباط تنبني عليها الفروع، فطالب العلم المتمذهب حينما يدرس مذهبا دراسة صحيحة يدرس أصوله وفروعه فيحصل عنده ربط بين الأصول والفروع، ثم يرتقي في دراسة الأصول والفروع والقواعد فيزداد هذا الربط وضوحا وقوة، ولأهمية هذا الربط خصص العلماء لهذا الأمر كتبا أسموها (تخريج الفروع على الأصول) وبذلك تحصل الملكة وتنمي، ومع كثرة ممارسة تطبيقات العلماء لأصولهم وقواعدهم، من خلال الفروع التي لا توجد بهذه الكثرة إلا في كتب المذاهب، يكتسب الطالب لا مجرد معرفة بالأصول فحسب، بل حرفة كيفية تطبيقها على الوجه الصحيح.
- وعلماء المذاهب صنفوا في الأصول والفروع والقواعد، وفي بناء الفروع على الأصول وجمعوا آيات الأحكام وأحاديث الأحكام وشرحوها، وصنفوا كتبا في تخريج الأحاديث التي تضمنتها أهم كتبهم، صنفوا في الفتاوى ليتعلم الطالب كيف ينزل ما درس على الواقع، وفي الخلاف العالي، وترجموا لرجالهم، وحققوا كتبهم ونقحوها وتعقبوا عليها.
- أما الطالب الذي يدرس من كتب الاختيارات الفقهية للمعاصرين فغاية أمره أن يعرف أقوال هذا المعاصر في الفروع، وحتى لو تعرف على بعض اختياراته الأصولية فلا يمكن أن يصل إلى أن يكون لهذا المعاصر بناء فقهي متكامل متسق كبناء المذاهب الأربعة، فيحرم الطالب بذلك من الربط المهم بين الفروع والأصول، ويخسر أهم عامل ينمي الملكة والدربة الفقهية، دع عنك أنه بعد ما ينتهي من الكتاب الأول كالفقه الميسر مثلا، يرتقي لكتاب آخر مصنف على طريقة الاختيارات أيضا لكن لعالم آخر له اختيارت فقهية وأصولية مختلفة عن الأول فيحصل بذلك تشويش يؤثر على فهم الطالب واستيعابه بلا شك.
- ثم هناك سلبيات أخرى اتسمت بها كتب الفقه غير المذهبية، مثل عدم ذكر كثير من الشروط والضوابط التي تحكم تصور المسألة، عشوائية الترجيح بحيث يحصل تضارب نتيجة عدم اتساق الأصول، ندرة الاستدلالات النظرية وكأن أدلة الشرع الإجمالية هي الأدلة النقلية فقط، وهذا أخرج لنا جيلا يتعامل مع الأدلة العقلية والأقيسة باستهجان ورفض مسبق، عدم تحرير نقل المذاهب، وعدم تحرير أدلتها، عدم صلاحية كل كتاب لأن يكون درجة يبنى عليها، لأن كل كتاب مدرسة مستقلة بخلاف التدرج في كتب المذاهب.
محول الأكوادإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء الإبتسامات