مبايعة أبي بكر بالخلافة
ممَّا لا شَكَّ فيه أنَّ الروايات التاريخيَّة الكثيرة التي حفظتها لنا المصادر حول ما دار في اجتماع السقيفة يشوبها الكثير من التضارب، ومع ذلك فهي تشترك في نقاطٍ جوهريَّة تُشكِّل أرضيَّةً صالحةً يُنظر إليها على أنها ذات محتوى تاريخي يُستند إليه في التأريخ لهذه الحقبة؛ حيث كانت مسألة خلافة النبيِّ صلى الله عليه وسلم مسار جدلٍ اتَّسم بالحدَّة أحيانًا، وقد تولَّى كلٌّ من سعد بن عبادة والحباب بن المنذر التكلُّم باسم الأنصار عامَّةً، وقد افتتح الأوَّل المناقشة بخطبةٍ تُشير إلى أنَّ الأنصار أعطوا لأنفسهم الحقَّ بالتَّفرُّد في تقرير مصير خلافة النبيِّ صلى الله عليه وسلم مع ما لهذه القضية من أهميَّةٍ وخطورة، دون الوقوف على رأي الطرف الآخر الذي يُشكِّل شطر المجتمع الإسلامي في المدينة وهم المهاجرون، وقد علَّلوا موقفهم هذا بأسبابٍ موجبةٍ لا تخرج عن موقفهم المشرِّف من الدِّين وصاحبه، ونُصرتهم له، وخذلان أكثر العرب له، وعجْز المهاجرين عن حمايته وحماية أنفسهم حتى اضطرُّوا إلى الهجرة إلى مدينة الأنصار فكان بعد ذلك النصر المؤزَّر، ممَّا أوضحنا في نتائج الاجتماع[1].
ولا شَكَّ أنَّ هذا التصرف هو سلوكٌ انفصاليٌّ لا يأخذ بالحسبان مجموع الأمَّة، ثُمَّ إنَّ رئاسة الدولة إنَّما هو أمرٌ دينيٌّ وسياسيُّ معًا.
ازدواجيةٌ فى الحكم والخلافة
يبدو أنَّ بعض الأنصار أدركوا بعد ذلك حقيقة وضعهم في أنَّهم ليسوا وحدهم أصحاب الحقِّ في تقرير أمر الخلافة، وأنَّ لهم منافسًا قويًّا سوف يُزاحمهم؛ إنهم المهاجرون، يدل على ذلك ردُّ الفعل الأوَّليِّ عند هؤلاء على خطاب سعد بن عبادة رضي الله عنه، فبعد أن دعموا رأيه وأيَّدوا موقفه، استدركوا الواقع التاريخيِّ الذي يعيشون فيه، ورأوا أنَّ المهاجرين لن يُسلِّموا بهذا الأمر ولا بُدَّ أن يُعارضوه، وجرت بينهم مناقشةٌ هادئةٌ انتهت إلى القول بالثنائية في الحكم "منَّا أمير ومنكم أمير"[2].
كان الحباب بن المنذر رضي الله عنه صاحب هذه النظرية، وجاءت كجوابٍ على الرفض القاطع للمهاجرين في تفرُّد الأنصار بالإمارة دون سواهم؛ معلِّلًا رأي هؤلاء بقوله: "منَّا أميرٌ ومنكم أمير، فإنَّا والله ما ننفس هذا الأمر عليكم أيها الرهط، ولكنَّا نخاف أن يليه أقوامٌ قتلنا آباءهم وإخوانهم"[3].
حاول الجاحظ أن يشرح موقف الأنصار، وسلوكهم في اجتماع السقيفة وبخاصَّةٍ في ما يتعلَّق برأيهم في ازدواجية الإمارة، وهو يفهم كلام الأنصار "منَّا أميرٌ ومنكم أمير" كما لو أنَّهم أرادوا أن يقولوا: "لا بُدَّ لنا معشر الأنصار من أميرٍ على أيِّ حال، وأنتم بعد أعلم بشأنكم، فأقرُّوا عليكم مَنْ بدا لكم، وليس في هذا طعنٌ على خاصَّة أبي بكر رضي الله عنه، كما أنه ليس فيه تأكيدٌ لإمامته دون غيره"[4].
موقف المهاجرين
كان المهاجرون آنذاك أكثر بُعْدًا عن هذا المناخ السياسي؛ بعضهم قد شُغِل بوفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وجهازه ودفنه، وبعضهم ما تزال الصدمة تملأ نفسه، وبعضهم لم يُفَكِّر في اختيار خليفة؛ معتقدًا أنَّ هذا الأمر هو آخر ما يقع الاختلاف فيه، وهم على يقين أنَّ ما من طائفةٍ من المسلمين سوف تُنازعهم في هذا الأمر[5].
ولمـَّا بلغ خبرُ اجتماع السقيفة أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب مضيا رضي الله عنهما إلى هناك مسرعين؛ بفعل أهميَّة وخطر الموضوع المطروح من مشكلة الحُكم، والتقيا في طريقهما أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فأخذاه معهما، وشكَّل هذا الثلاثيُّ جماعةً متماسكةً ربَّما منذ المرحلة المكِّيَّة من الدَّعوة؛ فهم ينتمون إلى عشائر قرشيَّة صغيرة، وكان هذا سببًا لتقاربهم، وقد واجهوا خصوصيَّةً متفرِّدةً لم تكن قادرة على خلافة النبيِّ صلى الله عليه وسلم في عمله التوحيدي.
أبو بكر وتوحيد صفِّ الأمَّة
شقَّ أبو بكرٍ رضي الله عنه طريقه إلى صدر الاجتماع، وألقى خطبةً في المجتمعين بيَّن فيها وجهة نظر المهاجرين عامَّةً من قضية اختيار خليفةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم[6]، وهي تختلف في مضمونها عن خطبة سعد بن عبادة.
لقد فضَّل أبو بكر رضي الله عنه وحدة الأمَّة التي أسَّسها النبي صلى الله عليه وسلم، والسابقة في الجهاد من أجل الإسلام، وحدَّد الأولويَّة بالأقدميَّة في حياة الإسلام، وبالعذاب في سبيل العقيدة والإيمان، وقدَّم قاعدة الصحبة كمعيارٍ لاختيار الأفضل، ثُمَّ أشاد بمزايا الأنصار ولم يغمطهم حقَّهم من التكريم، إلَّا إنَّ ذلك يأتي في المرتبة الثَّانية.
تضمَّنت الخطبة الأسباب الموجِبَة ليكون الأمراء من المهاجرين محصورةً في أنَّهم أوَّل مَنْ عَبَدَ الله في الأرض، وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحقُّ النَّاس بهذا الأمر من بعده، لا يُنازعهم في ذلك إلَّا ظالم.
يبدو أنَّها ردٌّ على مقالة سعد بن عبادة رضي الله عنه التي قالها في الأنصار قبل حضور المهاجرين، وكرَّرها الحباب بن المنذر، وهي صفةٌ جعلت كثيرًا من المسلمين يتراجعون عن المطالبة بالحكم خشية من أن يكون ظالمـًا لا سيما أنَّ توقيت إثارة هذه المطالب لم يكن مناسبًا؛ لأنَّ الوضع كان مفعمًا بالحزن والألم نتيجة وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ هناك صراعًا خفيًّا يكاد يعصف بالأمَّة الإسلاميَّة يتمثَّل في اعتقاد أهل النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعشيرته بأحقيَّتهم بهذا الأمر[7].
هكذا كانت السابقة في جانب المهاجرين من زاويةٍ إسلاميَّةٍ محض، وكان التفوُّق في جانبهم -أيضًا- من وجهة نظرٍ عربيَّةٍ محض؛ لأنهم ينتمون إلى قبيلة قريش، قبيلة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فإنَّ الوراثة في جانبهم[8].
إِذَنْ لا انقسام للسلطة؛ بل وحدة الأمة، وتفوُّق قريش، وأولويَّة المهاجرين، ومواصلة العمل النبويِّ.
حتى انتهاء أبي بكر رضي الله عنه من إلقاء كلمته التي وجَّهها إلى الأنصار لم يكن المهاجرون قد استقرُّوا على تحديد الشخص الذي سيتولَّى هذا الأمر، ويدلُّ ذلك على أنَّ اهتمامهم كان بالمبدأ وليس بالأشخاص، على عكس الأنصار الذين كانت رؤيتهم واضحة وقدَّموا مرشَّحهم سعد بن عبادة رضي الله عنه.
بيعة أبي بكر
تطوَّرت المواقف المتباينة التي عُرضت في اجتماع السقيفة نحو التأزُّم، ولم تنفرج إلَّا بعد أن أيَّد بشير بن سعد الأنصاري أبو النعمان بن بشير رضي الله عنه -وهو من الخزرج- موقف المهاجرين[9]، ويبدو أنَّه استاء من تولية سعد بن عبادة رضي الله عنه، ويدلُّ ذلك على أنَّ الاعتراضات في اجتماع السقيفة نَحَت اتِّجاهًا قبليًّا؛ فقد خشيت الأوس أن يتزعَّم خزرجيٌّ الأمة الإسلامية، وكذلك خشيت الخزرج من أن يترأَّس أوسيٌّ حكم المسلمين، وقد أنهت هذه المفارقة موقف الأنصار ودورهم؛ الأمر الذي أدَّى إلى مبايعة أبي بكرٍ رضي الله عنه كأمرٍ واقعٍ أو فلتة[10] على حدِّ قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وتحرَّك أبو بكر في تلك اللحظة مستغلًّا تحوُّل الموقف لصالح المهاجرين، فلم يُتَحْ لأحدٍ من المتكلِّمين التعليق على كلام بشير بن سعد رضي الله عنه، ورأى الفرصة سانحةً لإقفال باب المناقشة، فدعا المجتمعين إلى مبايعة عمر بن الخطاب أو أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما -أمين هذه الأمة- ولكنَّ عمر رضي الله عنه أبى إلَّا أن يتولَّاها أبو بكر رضي الله عنه أفضل المهاجرين، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة، فطلب منه أن يبسط يده ليُبايعه، فسبقه بشير بن سعد وأسيد بن حضير رضي الله عنهما، ثُمَّ أقبل الأوس والخزرج على مبايعته، ووثب بعد ذلك أهل السقيفة يبتدرون البيعة وكأنهم كانوا يترقَّبون أن يأخذ أحدهم زمام المبادرة، ولم يبقَ أحدٌ لم يُبايع سوى سعد بن عبادة رضي الله عنه، وما منعه من ذلك سوى حراجة وضعه زعيمًا رشَّحته الخزرج، وصحَّة جسمه حيث كان عليلًا، وفي اليوم التالي لهذه البيعة الخاصَّة، بُويع أبو بكر البيعة العامَّة في المسجد[11].
هكذا تولَّى المهاجرون السلطة الفعليَّة في الوقت الذي ابتعد الأنصار عنها كثيرًا دون أن يكون للتسوية التي طرحها أبو بكرٍ رضي الله عنه في اجتماع السقيفة "نحن الأمراء وأنتم الوزراء" أيُّ نصيبٍ من التنفيذ، باستثناء مشاركةٍ تمَّت لهم في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قرَّب جماعةً منهم على حساب قريش، ومشاركةٍ أكثر فعاليَّة في عهد عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه الذي اعتمد عليهم في إدراته وحروبه.
جرت هذه الوقائع في الوقت الذي كان فيه عليُّ بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما، ونفرٌ من بني هاشم، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، مشغولين بجهاز النبيِّ صلى الله عليه وسلم ودفنه، فغابوا عن اجتماع السقيفة، وعليه لم يكن لعليٍّ رأيٌ مباشرٌ في النقاش إلَّا أنَّه بايع أبا بكرٍ رضي الله عنه، واتَّفق مع جماعة المسلمين بغضِّ النظر عن المدَّة التي قضاها دون بيعة[12].
وربَّما يكون من المفيد استعراض الكيفيَّة التي حدثت بها مبايعة أبي بكر رضي الله عنه من قِبَل القرشيين؛ فقد ذكر ابن قتيبة: "وإنَّ بني هاشم اجتمعت عند بيعة الأنصار إلى عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه ومعهم الزبير بن العوام رضي الله عنه، وكانت أمُّه صفيَّة بنت عبد المطلب رضي الله عنها، وإنَّما كان يعدُّ نفسه من بني هاشم... واجتمعت بنو أميَّة إلى عثمان رضي الله عنه، واجتمعت بنو زهرة إلى سعدٍ وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، فكانوا في المسجد الشريف مجتمعين، فلمَّا أقبل عليهم أبو بكر وأبو عبيدة رضي الله عنهما -وقد بايع الناس أبا بكرٍ رضي الله عنه- قال لهم عمر رضي الله عنه: "ما لي أراكم مجتمعين حلقًا شتَّى، قوموا فبايعوا أبا بكرٍ رضي الله عنه فقد بايعته الأنصار، فقام عثمان بن عفان رضي الله عنه ومن معه من بني أميَّة فبايعوه، وقام سعد وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ومن معهما من بني زهرة فبايعوا..."[13].
كما غابت عن المنافسة المباشرة في اجتماع السقيفة الفئة "الأرستقراطية" بزعامة أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه، إلَّا إنَّه تبنَّى المرشَّح الأوفر حظًّا بهدف استمراريَّة مصالحه على الرغم من أنَّه حرَّض عليًّا ودعاه إلى البيعة لنفسه، فزجره عليٌّ، غير أنَّ خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه وهو أحد أشراف مكَّة ووجهًا من وجوه بني أمية، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد أرسله عاملًا على صدقات مذحج، كان له موقفٌ متميِّز، فبعد أن قدم إلى المدينة -وكانت البيعة قد تمَّت- توجَّه إلى عليٍّ وعثمان رضي الله عنهما وخاطبهما قائلًا: "إنَّما الشعار دون الدثار، أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي أمركم عليكم غيركم؟ فقال عليٌّ: "أوَغَلبَةٍ تراها؟ إنَّما هو أمر الله يضعه حيث يشاء. قال: فلم يحتملها عليه أبو بكر رضي الله عنه واضطغنها عمر رضي الله عنه". وبقي هذا الصحابي ممتنعًا عن بيعة أبي بكرٍ رضي الله عنه مدَّة ستَّة أشهر[14].
المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
ــــــــــــــــــــ
[1] ابن هشام: ج4: ص257.
[2]جعيط، هشام: الفتنة ص34.
[3] انظر نص الخطبة في الطبري: ج3 ص218.
[4] الطبري: ج3 ص318.
[5]البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر: أنساب الأشراف: ج2 ص260.
[6] الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر: العثمانيَّة: ص177.
[7] شاكر: ج3 ص51.
[8] انظر نص الخطبة عند الطبري: ج3 ص219، 220.
[9] ابن قتيبة: ج1 ص12، 13.
[10]فلتة: بغتة وفجأة.
[11]الطبري: ج3 ص221، 222.
[12]البلاذري: ج2 ص262، 263.
[13]الإمامة والسياسة: ج1 ص17.
[14]الطبري: ج3 ص388.....
.................................................................................................
منقول من موقع قصة الاسلام للدكتور راغب السرجاني
محول الأكوادإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء الإبتسامات