فتوحات الشام بعد انتصار اليرموك


نعرض تفاصيل استكمال فتوحات الشام بعد انتصار المسلمين في معركة اليرموك، والتي من أهمها فتح قنسرين وحلب وفتح أنطاكية والجزيرة الفراتية وساحل الشام واستكمال فتح فلسطين.
فتح قنسرين
عاد أبو عبيدة بن الجراح بعد الانتصار إلى حمص، وأرسل خالدًا إلى قنسرين، وتقع على الطريق بين حلب وأنطاكية، ويتصل بها الطريق الذي يؤدي إلى شيزر، ثم حماة فحمص. كانت قبيلة تنوخ من بين القبائل العربية تسكن هناك منذ زمن، وكان أفرادها يعيشون منذ سنوات، في خيام من الوبر، ولكنهم تأثروا تدريجيًا بالحضارة، فشيدا المباني الفخمة، وأضحت قنسرين إحدى الحواضر.
وعندما علم البيزنطيون، وحلفاؤهم العرب المتنصرة بقدوم خالد إليهم اختاروا الاصطدام به بقيادة ميناس، وهو أحد القادة الكبار، فخرج هذا على رأس الجيش إلى الحاضر، وهو مكان قريب من قنسرين وعسكر فيه، وفي الوقت الذي كان يعبئ قواته انقض عليه خالد فجأة، فتغلب عليه وقتله، وأباد جنده. واعتصم أهل قنسرين بحصنهم، فأنذرهم خالد، فطلبوا الأمان، وعرضوا الصلح على شروط حمص مع دفع الجزية، واشترط خالد عليهم أن يهدم حصنهم عقابًا لهم على مقاومتهم، وحتى لا يتحصنوا بداخله مرة أخرى، فهدمه، وفر سكانه إلى أنطاكية.
فتح حلب
تابع أبو عبيدة تقدمه إلى حلب، وهي من أعمال قنسرين، وعلى مقدمته عياض بن غنم، وكان قد فصل من العراق إلى إقليم الجزيرة المجاور للعراق، فاشترك في فتوح الجزيرة والشمال، وكان يسكن في ظاهر المدينة كثير من القبائل العربية، فصالحهم على الجزية، وتصدت له حامية المدينة، وأحرزت بعض التقدم خلال المواجهة، ويبدو أن سكان حلب داخلهم الخوف من توجيه ضربات مضادة من جانب المسلمين، وبخاصة أن معظم المدن سقطت في أيديهم، ولن تكون حلب أمنع من غيرها من هذه المدن، فطلبوا الأمان والصلح وأقروا بالجزية، وتم الصلح على مثل صلح حمص، وكتبت المعاهدة للحفاظ على أرواحهم، وأموالهم وأسوارهم ومنازلهم، وقلاعهم وكنائسهم، واستثنى عليهم موضعًا للمسجد، ويبدو أن جماعة من أهل المدينة لم يتآلفوا مع الحكم الإسلامي، وفضلوا الرحيل إلى أنطاكية، وما لبث عدد كبير ممن بقي في المدينة أن دخل في الإسلام بعد ذلك.
فتح أنطاكية
سار أبو عبيدة بعد ذلك إلى أنطاكية، وكانت مركزًا لجيوش الإمبراطورية البيزنطية، وعاصمة الدولة البيزنطية في بلاد الشام، ومقر هرقل ومأمنه، وكان قد لجأ إليها كثير من البيزنطيين، وفتح أثناء زحفه عزاز بدون قتال، وحاولت قوة عسكرية خرجت منها وقف تقدمه إلا أنها فشلت، واضطر أفرادها للعودة، والتحصن بالمدينة، ولما وصل أبو عبيدة إليها ضرب الحصار عليها، وجرت مناوشات بين الطرفين اضطر بعدها السكان إلى طلب الصلح، وأقروا بالجزية، ووافق أبو عبيدة على طلبهم، ودخل المسلمون بعد ذلك إلى المدينة، ونظرًا لأهمية موقعها كمركز متقدم ملاصق لحدود العدو أمر عمر أبا عبيدة بشحنها بالمقاتلين.
فتوح أقصى شمالي بلاد الشام
كان من الضروري، لتأمين الفتوح الإسلامية في بلاد الشام من التعرض لردات فعل البيزنطيين بالسيطرة على منطقة أقصى شمالي البلاد الملاصقة للحدود مع آسيا الصغرى، لذلك نشر أبو عبيدة فرقه العسكرية في جميع أنحاء المنطقة، ففتحت المدن الصغيرة والقرى بسهولة نظرًا لانعدام المقاومة الجدية، نذكر منها: معرة مصرين، بوقا، الجومة، سرمين، مرتحوان، تيزين، خناصرة، قورس، الساجور، منبج، مرعش، رعبان، دلوك، عراجين، بالس، قاصرين، اللاذقية، أنطرطوس وغيرها، وقد صالحت هذه المدن، والقرى المسلمين على عهود الصلح التقليدية.
فتوح الجزيرة الفراتية
كان إقليم الجزيرة الفراتية أحد الأقاليم الأكثر إزعاجًا من حيث الاضطراب العسكري في القرنين السادس والسابع الميلاديين، وبسبب أهميته العسكرية الدفاعية إزاء هجوم قد يأتي من فارس، فقد شحن بحاميات عسكرية ضخمة، وبعد أن فتح المسلمون العراق وبلاد الشام.
شكل هذا الإقليم نتوءًا، وقاعدة يمكن أن:
- تنطلق منها وحدات عسكرية لتقوم بهجوم مضاد لاسترداد الأراضي التي فتحها المسلمون.
- تؤمن حصول تنسيق بيزنطي - فارسي، للقيام بعمل مشترك ضد المسملين.
- تقوم جزئيًا بحماية الأراضي الأرمينية التابعة لبيزنطية من هجمات المسلمين.
وكان فتحه ضرورة عسكرية وخطوة صائبة من أجل:
- تثبيت الفتوح الإسلامية في العراق وبلاد الشام وحماية المكتسبات الإسلامية.
- تثبيت السلطة على القبائل العربية التي ما زالت على نصرانيتها، وقطع صلاتها ببيزنطية، ووقف تجنيد العرب في الجيش البيزنطي، وتستوقفنا هنا حادثة فرار جبلة بن الأيهم من المدينة، وتوجهه إلى بلاد البيزنطيين عبر الرقة.
- إزالة الخطر الذي تتعرض له المواصلات الإسلامية.
- القضاء على أية حركة فارسية معادية ومزعجة.
- منع هرقل من الوصول إلى المد الأرميني.
طاعون عمواس
وحدث في عام "18هـ / 639م" أن أصيب أبو عبيدة بطاعون عمواس وتوفي، وكان قد استخلف عياضًا بن غنم على حمص، ولم يلبث عمر أن ولاه حمص وقنسرين والجزيرة، فخرج على رأس الجيش في "منتصف شعبان/ 21 أغسطس"، وعلى مقدمته ميسرة بن مسروق العبسي، وأغار على الرقة، ثم حاصرها وفتحها صلحًا، فكانت أولى مدن الجزيرة التي فتحها المسلمون، وواصل تقدمه إلى الرها، وعسكر على أحد أبوابها، فقاومه أهلها، وبث خيله في الأماكن المجاورة، ولم تمض ستة أيام حتى طلب قائد الحامية الصلح، فأجابه عياض وأمنه وأهل المدينة على أنفسهم وأموالهم، وأقروا بالجزية والخراج، وشيء من القمح والزيت، والخل والعسل، واشترط عياض عليهم عدم بناء كنائس أو أديرة، وأن يصلحوا الجسور للمسلمين، وأن يرشدوا من ضل الطريق منهم، ثم تقدم إلى حران فصالحه أهلها على صلح الرها، وأرسل فرقة عسكرية فتحت سميساط، ولم يلبث أهل المدن الأخرى مثل تل موزون وقرقيسياء وآمد وماردين أن طلبوا الصلح بشروط صلح الرها، فأجابهم عياض، ثم واصل فتوحه في عام "19هـ/ 640م"، ففتح ميافارقين، وكفرتوثا، ونصيبين، وأرزن. وأرسل عمر بن سعد الأنصاري، ففتح رأس العين ودارا، ودخل درب الروم، وأطل على أرمينية، وكانت بغراس إحدى ضواحي أنطاكية، وتلتقي عندها حدود آسيا الصغرى، وقد سكنتها قبائل عربية مثل غسان وتنوخ وإياد الذين كانوا يساندون البيزنطيين، فهاجمهم حبيب بن مسلمة.
أدى فتح الجزيرة الفراتية إلى فصل بيزنطية عن القبائل العربية الموالية لها، وقوتها البشرية، وأسهمت في الحاجة إلى البحث عن مصادر بشرية جديدة، وتبديل أساليبها القتالية ضد المسلمين، بفعل أنها لم يعد باستطاعتها أن تحارب المسلمين العرب باستئجار عرب آخرين، كما قضى هذا الفتح على إمكان قيام تحالف بين البيزنطيين، والفرس ضد المسلمين، وحال دون قيام بيزنطية بإنقاذ الإمبراطورية الفارسية المتداعية.
فتوح ساحل بلاد الشام
بدأ الاحتكاك العسكري بين المسلمين والبيزنطيين في ساحل بلاد الشام خلال حصار بعلبك حيث كان للمسلمين مركزان مسلحان: الأول في برزة عليه أبو الدرداء الأنصاري، والثاني في عين ميسنون عليه أبو عثمان الصنعاني شراحيل بن مرثد، فأغار أحد القادة البيزنطيين، ويدعي سسناق على المركز الثاني منطلقًا من بيروت، ويبدو أنه نجح في قتل جماعة من حاميته، ولهذا دعيت هذه القرية بـ"عين الشهداء".
شجعت هذه الغارة البيزنطية المسلمين للسيطرة على القطاع الأوسط من ساحل بلاد الشام، والذي يمتد من عرقة شمالًا إلى صيدًا جنوبًا، وطرد البيزنطيين من ثغوره، ومنعهم من استعمالها قواعد انطلاق لمهاجمة الداخل الشامي.
خرج يزيد بن أبي سفيان من دمشق على رأس قوة عسكرية متوجهًا نحو الساحل، وصحبه أخوه معاوية، ولم تحدد المصادر التاريخية الطريق الذي سلكه إلى المدن الساحلية، والراجح أنه اجتاز الطريق الحالي الذي يمر بمنعطفات جبال لبنان، وهذا يعني أن هذا الطريق كان خاليًا من أي قوة بيزنطية بعد الضربة التي تلقاها البيزنطيون في اليرموك، حتى أن أرض بلاد الشام فتحت على مصاريعها أمام المسلمين الذين تعدوا الداخل إلى إقليم الساحل دون مقاومة.
لم يبين البلاذري الذي أرخ لهذا الفتح، أي مدينة فتحت قبل الأخرى، إذ يذكرها دون مراعاة لترتيب مواقعها الجغرافية، فيذكر صيدا أولًا، وهي في الجنوب، ثم عرقة وتقع في أقصى الشمال، ويذكر بعدها جبيل وبيروت وهما في الوسط، فهل سارت حركة الفتح على هذا النحو، أم أن الترتيب جاء عفويًا؟!
الراجح أن البلاذري لم يذكر المدن المفتوحة على هذا النسق اعتباطًا، إذ يحتمل أن تكون القوة الإسلامية التي انطلقت من دمشق، انقسمت إلى فرقتين، توجهت إحداهما جنوبا إلى صيدا بقيادة يزيد، وتوجهت الأخرى إلى عرقة في الشمال بقيادة معاوية بن أبي سفيان بدليل ما رواه البلاذري: "أن يزيد أتى بعد فتح مدينة دمشق صيدا وعرقة وجبيل وبيروت، وهي سواحل، وعلى مقدمته أخوه معاوية، ففتحها فتحًا يسيرًا وجلا كثير من أهلها، وتولى فتح عرقة معاوية نفسه في ولاية يزيد".
غير أن البلاذري يروي رواية أخرى تفيد بأن معاوية وحده فتح مدن الساحل، فيقول: "كان يزيد بن أبي سفيان وجه معاوية إلى سواحل دمشق سوى طرابلس، فإنه لم يكن يطمع فيها، فكان يقيم على الحصن اليومين، والأيام اليسيرة، فربما قوتل قتالًا غير شديد، وربما رمى ففتحها"، ثم إن "الروم غلبوا على بعض هذه السواحل في آخر خلافة عمر بن الخطاب أو أول خلافة عثمان بن عفان، فقصد لهم معاوية حتى فتحها ثم رمها، وشحنها بالمقاتلة وأعطاهم القطائع"، وهذا يعني أن العملية لم تكلل بالنجاح التام، والمعروف أن المدن الساحلية لم تخضع للمسلمين خضوعًا تامًا إلا في المرحلة المتأخرة من حركة الفتوح، ولعل السبب في ذلك أن البيزنطيين كانوا يمدون هذه الثغور بالإمدادات والقوات عن طريق البحر، الأمر الذي ساعد سكانها على مقاومة المسلمين، أو الانقضاص عليهم كلما آنسوا منهم ضعفا، وقد أدى ذلك إلى قيام المسلمين بإقامة قواعد لهم على ساحل بلاد الشام ومصر بعد ذلك للتصدي للحملات البيزنطية البحرية، التي كانت تشن على مدن الساحل التي كانت تخضع لهم قبل الفتح، وظلت هذه المدن مدة غير قصيرة تتذبذب في ولائها، فمرة تخضع للمسلمين، ومرة ترفع راية العصيان عليهم.
استكمال فتوح فلسطين
توجه عمرو بن العاص إلى قطاعه فلسطين، وربما كان ذلك عبر نهر الأردن، ففتح سبسطية الواقعة إلى الشمال الغربي من نابلس، ثم فتح هذه الأخيرة، وأعطى أهلها الأمان على أنفسهم، وأموالهم ومنازلهم على أداء الجزية والخراج، ثم فتح اللد ونواحيها ويبني وعمواس وبيت جبرين، ثم هبط جنوبًا ففتح رفح، وفي رواية أنه فتح عسقلان، وكان قد فتح غزة في عهد أبي بكر الصديق، وحاصر قيسارية التي تعد من أشهر المدن آنذاك [1].

[4] انظر تفاصيل ههذ الافتوةحات في: الطبري: ج3 ص601، 602، وقارن بالبلاذري ص150 - 158.
المصدر: الدكتور محمد سهيل طقوش: تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية، الناشر: دار النفائس، الطبعة: الأولى 1424هـ / 2003م.
المصدر :قصة الاسلام